القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (3)

كتابات رأي

الإثنين, 11-01-2021 الساعة 02:00 مساءً بتوقيت عدن

لم  يكن سراً ذلك التفاوت والاختلاف بين نظامي البلدين، ففي حين اختار النظام الجنوبي، طريق الدولة المؤسسية وأنهى كل حضور للعلاقات التقليدية، القبلية والجهوية والعشائرية، وأي نفوذ للشخصيات الاجتماعية على أساس المقامات القبلية والتراتبية الاجتماعية التقليدية، وأحلَّ محلها نظام الدولة والمؤسسة القضائية والنيابية والأمنية، كان النظام في العربية اليمنية يقوم على المزاوجة بين الدولة والقبيلة، بل لقد كانت القبيلة في غالب الأحيان أكثر حضوراً من الدولة، وفي كثير من الأحيان كان زعماء القبائل هم من يحددون ليس فقط محافظ المحافظة ومدير المديرية، بل ورئيس الجمهورية، فعندما غضب هؤلاء من الرئيس عبد الله السلال انقلبوا عليه وأتوا بالقاضي عبد الرحمن الإرياني، وعندما لم يرق لهم الرئيس ابراهيم الحمدي اغتالوه في العملية المشهورة، وأتوا بأحمد الغشمي ثم علي عبد الله صالح.

"في حين حدد النظام في الجنوب حدود الملكية الزراعية والصناعية والمالية في إطار ما كان يُعرَف بـ"التوجه الاشتراكي"، كان نظام الملكية في العربية اليمنية لا يعرف حدوداً" 

وفي حين اختارت جمهورية الجنوب نظام الاقتصاد المخطط سار النظام الاقتصادي في العربية اليمنية على أساس "اقتصاد السوق" لكنه لم يتقيد بالمعايير العالمية لهذا المفهوم، بل كان يقوم على العشوائية غير المنضبطة لأي معايير أو موجهات أو قوانين، مع ما شابه من فساد ورشاوي ودخول مراكز القوى الطفيلية في النشاط الاقتصادي مما أفسد ما لهذا النوع من الاقتصاد من حسنات. 

وفي حين حدد النظام في الجنوب حدود الملكية الزراعية والصناعية والمالية في إطار ما كان يُعرَف بـ"التوجه الاشتراكي"، كان نظام الملكية في العربية اليمنية لا يعرف حدوداً وقد لا يكون هذا هو العنصر المهم في الأمر، لكن هذا النوع من النظام في ظل غياب الضوابط القانونية وغياب الدولة عموماً، قد جعل الطبقات الثرية تتوسع في ثرائها على حساب الطبقات الفقيرة التي كانت تزداد عوزا وفقرا وهبوطا إلى قاع المجتمع.

وفي حين أنهى النظام في الجنوب أي أثر من آثار العبودية وحرمها بالقانون ووضع أسسا للمساواة بين الناس بغض النظر عن الانتماء الجنسي أو العرقي أو القبلي أو الفئوي أو الفكري، كانت العبودية في العربية اليمنية ما تزال قائمة بل وواصلت حضورها حتى ما بعد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.

وفي حين كان الاقتصاد في الجنوب يقوم على أساس ملكية الدولة للأرض والبحر وما عليهما من موارد وثروات وتسخيرها لأغراض تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها في دستور ونظام البلد وقوانينها، كان النظام في العربية اليمنية يقوم على الملكيات الخاصة التي لا تخضع لقانون ولا تعرف التنافسية المشروعة أو "المشرعنة"، وقد سمح الفساد والعشوائية والاقتصاد الطفيلي بنشوء بؤر اقتصادية تفوقت في سنوات من حيث ملكياتها على ما يمتلكه كبار المنتميين إلى "الطبقة البرجوازية التقليدية" إذا ما جاز التعبير.

"إننا هنا لا نجري مفاضلة بين نظامي البلدين، ولا نتحدث عن حسنات هذا أو مساوئ ذاك من النظامين، كن هدفنا من هذه المقارنة كان تبيان التفاوت بين نهجي ونظامي بلدين ودولتين تتغنيان بنفس الأغنية "الوحدة اليمنية". 

 ففي حين كان نظام الدولة يزداد فقراً وإفلاساً كان كبار الطفيليين يزدادون ثراء وفحشاً، ووصل الأمر إلى بيع أراضي وأملاك الأوقاف التي من المفروض أنها ملكاً للواقف وحده ولا علاقة للدولة بها، بل بلغ الأمر درجة أن (الدولة) بكل هيبتها وهيلمانها، تقوم باستئجار مباني الوزارات والمؤسسات والمصالح الحكومية من الملاك الأثرياء وأحيانا يكون الوزير أو أحد مقربيه هو المالك للعقار الذي تستأجره وزارته، إذ لم يعد لدى الدولة ما تمتلكه.

إننا هنا لا نجري مفاضلة بين نظامي البلدين، ولا نتحدث عن حسنات هذا أو مساوئ ذاك من النظامين، إذ لكل نظام من المآخذ ما يمكن أن تحسب عليه، وإن كان تغييب الدولة وانتشار العشوائية غير قابل للمقارنة بأي نظام وأي قانون، لكن هدفنا من هذه المقارنة كان تبيان التفاوت بين نهجي ونظامي بلدين ودولتين تتغنيان بنفس الأغنية "الوحدة اليمنية" وترفعان نفس الشعار، ولكن بأسس ونوايا وأغراض ومقاصد مختلفة وأحيانا متنافرة.
    (يتبع)

كلمات مفتاحية: الجنوب العربي الهوية الجنوبية العربية اليمنية